فصل: فصل في العبوديات الخمس على الجوارح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والأقسام الثلاثة واجبة.
وكذلك الصدق والفرق بينه وبين الإخلاص: أن للعبد مطلوبا وطلبا فالإخلاص: توحيد مطلوبه والصدق: توحيد طلبه.
فالإخلاص: أن لا يكون المطلوب منقسما والصدق: أن لا يكون الطلب منقسما فالصدق بذل الجهل والإخلاص إفراد المطلوب.
واتفقت الأمة على وجوب هذه الأعمال على القلب من حيث الجملة.
وكذلك النصح في العبودية ومدار الدين عليه وهو بذل الجهد في إيقاع العبودية على الوجه المحبوب للرب المرضي له وأصل هذا واجب وكماله مرتبة المقربين.
وكذلك كل واحد من هذه الواجبات القلبية له طرفان واجب مستحق.وهو مرتبة أصحاب اليمين وكمال مستحب وهو مرتبة المقربين.
وكذلك الصبر واجب بإتفاق الأمة قال الإمام أحمد: ذكر الله الصبر في تسعين موضعا من القرآن أو بضعا وتسعين وله طرفان أيضا: واجب مستحق وكمال مستحب.
وأما المختلف فيه فكالرضا فإن في وجوبه قولين للفقهاء والصوفية.
والقولان لأصحاب أحمد فمن أوجبه قال: السخط حرام ولا خلاص عنه إلا بالرضا ومالا خلاص عن الحرام إلا به فهو واجب.
واحتجوا بأثر «من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ ربا سواي».
ومن قال هو مستحب قال: لم يجئ الأمر به في القرآن ولا في السنة بخلاف الصبر فإن الله أمر به في مواضع كثيرة من كتابه وكذلك التوكل قال 10: 84: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} وأمر بالإنابة فقال 39: 54: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} وأمر بالإخلاص كقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وكذلك الخوف كقوله: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقوله: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} وقوله: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} وكذلك الصدق قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} وكذلك المحبة وهي أفرض الواجبات إذ هي قلب العبادة المأمور بها ومخها وروحها.
وأما الرضا: فإنما جاء في القرآن مدح أهله والثناء عليهم لا الأمر به.
قالوا: وأما الأثر المذكور فإسرائيلي لا يحتج به.
قالوا: وفي الحديث المعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن استطعت أن تعمل الرضا مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره النفس خيرا كثيرا» وهو في بعض السنن.
قالوا: وأما قولكم لا خلاص عن السخط إلا به فليس بلازم فإن مراتب الناس في المقدور ثلاثة الرضا وهو أعلاها والسخط وهو أسفلها والصبر عليه بدون الرضا به وهو أوسطها فالأولى للمقربين السابقين والثالثة للمقتصدين والثانية للظالمين وكثير من الناس يصبر على المقدور فلا يسخط وهو غير راض به فالرضا أمر آخر.
وقد أشكل على بعض الناس اجتماع الرضا مع التألم وظن أنهما متباينان وليس كما ظنه فالمريض الشارب للدواء الكريه متألم به راض به والصائم في شهر رمضان في شدةالحر متألم بصومه راض به والبخيل متألم بإخراج زكاة ماله راض بها فالتألم كما لا ينافي الصبر لا ينافي الرضا به.
وهذا الخلاف بينهم إنما هو في الرضا بقضائه الكوني وأما الرضا به ربا وإلها والرضا بأمره الديني فمتفق على فرضيته بل لا يصير العبد مسلما إلا بهذا الرضا: أن يرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا.
ومن هذا أيضا اختلافهم في الخشوع في الصلاة وفيه قولان للفقهاء وهما في مذهب أحمد وغيره.
وعلى القولين اختلافهم في وجوب الإعادة على من غلب عليه الوسواس في صلاته فأوجبها ابن حامد من أصحاب أحمد وأبو حامد الغزالي في إحيائه ولم يوجبها أكثر الفقهاء.
واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من سها في صلاته بسجدتي السهو ولم يأمره بالإعادة مع قوله: «إن الشيطان يأتي أحدكم في صلاته فيقول: اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى» ولكن لا نزاع أن هذه الصلاة لا يثاب على شيء منها إلا بقدر حضور قلبه وخضوعه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد لينصرف من الصلاة ولم يكتب له إلا نصفها ثلثها ربعها حتى بلغ عشرها» وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت منها» فليست صحيحة باعتبار ترتب كمال مقصودها عليها وإن سميت صحيحه باعتبار أنا لا نأمره بالإعادة.
ولا ينبغي أن يعلق لفظ الصحة عليها فيقال: صلاة صحيحة مع أنه لا يثاب عليها فاعلها.
والقصد: أن هذه الأعمال واجبها ومستحبها هي عبودية القلب فمن عطلها فقد عطل عبودية الملك وإن قام بعبودية رعيته من الجوارح.
والمقصود: أن يكون ملك الأعضاء وهو القلب قائما بعبوديته لله سبحانه هو ورعيته.
وأما المحرمات التي عليه: فالكبر والرياء والعجب والحسد والغفلة والنفاق وهي نوعان: كفر ومعصية.
فالكفر: كالشك والنفاق والشرك وتوابعها.
والمعصية نوعان: كبائر وصغائر.
فالكبائر: كالرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله والفرح والسرور بأذى المسلمين والشماتة بمصيبتهم ومحبة أن تشيع الفاحشة فيهم وحسدهم على ما آتاهم الله من فضله وتمنى زوال ذلك عنهم وتوابع هذه الأمور التي هي أشد تحريما من الزنا وشرب الخمر وغيرهما من الكبائر الظاهرة ولا صلاح للقلب ولا للجسد إلا باجتنابها والتوبة منها وإلا فهو قلب فاسد وإذا فسد القلب فسد البدن.
وهذه الآفات إنما تنشأ من الجهل بعبودية القلب وترك القيام بها.
فوظيفة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على القلب قبل الجوارح فإذا جهلها وترك القيام بها امتلأ بأضدادها ولابد وبحسب قيامه بها يتخلص من أضدادها.
وهذه الأمور ونحوها قد تكون صغائر في حقه وقد تكون كبائر بحسب قوتها وغلظها وخفتها ودقتها.
ومن الصغائر أيضا: شهوة المحرمات وتمنيها وتفاوت درجات الشهوة في الكبر والصغر بحسب تفاوت درجات المشتهي فشهوة الكفر والشرك: كفر وشهوة البدعة: فسق وشهوة الكبائر: معصية فإن تركها لله مع قدرته عليها أثيب وإن تركها عجزا بعد بذله مقدوره في تحصيلها: استحق عقوبة الفاعل لتنزيله منزلته في أحكام الثواب والعقاب وإن لم ينزل منزلته في أحكام الشرع ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قالوا: هذا القاتل يا رسول الله فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه» فنزله منزلة القاتل لحرصه على قتل صاحبه في الإثم دون الحكم وله نظائر كثيرة في الثواب والعقاب. وقد علم بهذا مستحب القلب ومباحه.

.فصل في واجبات عبوديات اللسان:

وأما عبوديات اللسان الخمس فواجبها: النطق بالشهادتين وتلاوة ما يلزمه تلاوته من القرآن وهو ما تتوقف صحة صلاته عليه وتلفظه بالأذكار الواجبة في الصلاة التي أمر الله بها ورسوله كما أمر بالتسبيح في الركوع والسجود وأمر بقول: «ربنا ولك الحمد» بعد الاعتدال وأمر بالتشهد وأمر بالتكبير.
ومن واجبه: رد السلام وفي ابتدائه قولان.
ومن واجبه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الجاهل وإرشاد الضال وأداء الشهادة المتعينة وصدق الحديث.
وأما مستحبه: فتلاوة القرآن ودوام ذكر الله والمذاكرة في العلم النافع وتوابع ذلك.
وأما محرمه: فهو النطق بكل ما يبغضه الله ورسوله كالنطق بالبدع المخالفة لما بعث الله به رسوله والدعاء إليها وتحسينها وتقويتها وكالقذف وسب المسلم وأذاه بكل قول والكذب وشهادة الزور والقول على الله بلا علم وهو أشدها تحريما.
ومكروهه: التكلم بما تركه خير من الكلام به مع عدم العقوبة عليه.
وقد اختلف السلف: هل في حقه كلام مباح متساوي الطرفين؟ على قولين ذكرهما ابن المنذر وغيره أحدهما: أنه لا يخلو كل ما يتكلم به: إما أن يكون له أو عليه وليس في حقه شيء لا له ولا عليه.
واحتجوا بالحديث المشهور وهو «كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ما كان من ذكر الله وما والاه».
واحتجوا بأنه يكتب كلامه كله ولا يكتب إلا الخير والشر. وقالت طائفة: بل هذا الكلام مباح لا له ولا عليه كما في حركات الجوارح. قالوا: لأن كثيرا من الكلام لا يتعلق به أمر ولا نهي وهذا شأن المباح.
والتحقيق: أن حركة اللسان بالكلام لا تكون متساوية الطرفين بل إما راجحة وإما مرجوحة لأن للسان شأنا ليس لسائر الجوارح وإذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان تقول: «اتق الله فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا» وأكثر ما يكب الناس على مناخرهم في النار حصائد ألسنتهم وكل ما يتلفظ به اللسان فإما أن يكون مما يرضي الله ورسوله أولا فإن كان كذلك فهو الراجح وإن لم يكن كذلك فهو المرجوح وهذا بخلاف سائر الجوارح فإن صاحبها ينتفع بتحريكها في المباح المستوى الطرفين لما له في ذلك من الراحة والمنفعة فأبيح له استعمالها فيما فيه منفعة له ولا مضرة عليه فيه في الآخرة وأما حركة اللسان بما لا ينتفع به فلا يكون إلا مضرة فتأمله.
فإن قيل: فقد يتحرك بما فيه منفعة دنيوية مباحة مستوية الطرفين فيكون حكم حركته حكم ذلك الفعل.
قيل: حركته بها عند الحاجة إليها راجحة وعند عدم الحاجة إليها مرجوحة لا تفيده فتكون عليه لا له.
فإن قيل: فإذا كان الفعل متساوي الطرفين كانت حركة اللسان التي هي الوسيلة إليه كذلك إذ الوسائل تابعة للمقصود في الحكم.
قيل: لا يلزم ذلك فقد يكون الشيء مباحا بل واجبا ووسيلته مكروهة كالوفاء بالطاعة المنذورة هو واجب مع أن وسيلته وهو النذر مكروه منهى عنه وكذلك الحلف المكروه مرجوح مع وجوب الوفاء به أو الكفارة وكذلك سؤال الخلق عند الحاجة مكروه ويباح له الإنتفاع بما أخرجته له المسألة وهذا كثير جدا فقد تكون الوسيلة متضمنة مفسدة تكره أو تحرم لأجلها وما جعلت وسيلة إليه ليس بحرام ولا مكروه.

.فصل في العبوديات الخمس على الجوارح:

وأما العبوديات الخمس على الجوارح: فعلى خمس وعشرين مرتبة أيضا.إذ الحواس خمسة وعلى كل حاسة خمس عبوديات.
فعلى السمع: وجوب الإنصات والإستماع لما أوجبه الله ورسوله عليه من استماع الإسلام والإيمان وفروضهما وكذلك استماع القراءة في الصلاة إذا جهر بها الإمام واستماع الخطبة للجمعة في أصح قولي العلماء.
ويحرم عليه استماع الكفر والبدع إلا حيث يكون في استماعه مصلحة راجحة من رده أو الشهادة على قائله أو زيادة قوة الإيمان والسنة بمعرفة ضدهما من الكفر والبدعة ونحو ذلك وكإستماع أسرار من يهرب عنك بسره ولا يحب أن يطلعك عليه ما لم يكن متضمنا لحق لله يجب القيام به أو لأذى مسلم يتعين نصحه وتحذيره منه.
وكذلك استماع أصوات النساء الأجانب التي تخشى الفتنة بأصواتهن إذا لم تدع إليه حاجة: من شهادة أو معاملة أو استفتاء أو محاكمة أو مداواة ونحوها.
وكذلك استماع المعازف وآلات الطرب واللهو كالعود والطنبور واليراع ونحوها ولا يجب عليه سد أذنه إذا سمع الصوت وهو لا يريد استماعه إلا إذا خاف السكون إليه والإنصات فحينئذ يجب لتجنب سماعها وجوب سد الذرائع.
ونظير هذا: المحرم لا يجوز له تعمد شم الطيب وإذا حملت الريح رائحته وألقتها في مشامه لم يجب عليه سد أنفه.
ونظير هذا: نظرة الفجاءة لا تحرم على الناظر وتحرم عليه النظرة الثانية إذا تعمدها.
وأما السمع المستحب: فكاستماع المستحب من العلم وقراءة القرآن وذكر الله واستماع كل ما يحبه الله وليس بفرض.
والمكروه: عكسه وهو استماع كل ما يكره ولا يعاقب عليه.